كتب الفنان الكبير يوسف العاني هذه الخاطرة في 17-01-1996 بمناسبة رحيل الفنانة ليلى مراد ، اعيد نشرها هنا ففيها حادثة عن الفنانة تذكر لأول مرة.
" ليلى مراد "
حضور سينمائي وصوت ساحر
غادرتنا نجمة السينما الغنائية ليلى مراد إلى الأبد عن عمر ناهز الثمانية والسبعين عاماً ، بعد أن ملأت شاشة السينما العربية حضوراً مؤثراً عبر صوتها الساحر النافذ الى القلب ، وتمثيلها الحميم القريب الى الروح والعاطفة معاً ، في عصر كان الصعود فيه الى المجد ليس سهلاً ، بل عسيراً لا تحققه إلا الكفاءة المتجددة المتطورة ، في زمن تربعت فيه ليلى مراد المغنية الساحرة على عرش الغناء - السينمائي – إن جاز لي هذا التعبير .. وعلى عرش التمثيل المؤثر ايضاً احساساً وحضوراً – لتظل عبر سبعة وعشرين فيلماً منذ بدايتها وحتى عام 1955 .. حين قررت أن تتوقف ، وهي في أوج ذلك المجد راسخة للأجيال القادمة أنموذجاً فريداً يستعيده من عاصره بحب واعتزاز ورقة عاشت في ماضيه وأيامه الخوالي .. ويتقبله من لم يعشه حين يعاد إليه وعليه فيأنس له طرباً وتألقاً مع الافلام التي يقدمها التلفزيون في أكثر من مناسبة و مناسبة.
لا أريد أن اكون الناقد المحلل لقدرات ليلى مراد الغنائية فذاك أمر يتناوله غيري .. ولا أريد أن أرسم صورة ليلى مراد الممثلة التي سحرتنا وآنستنا ساعات من ضجر الحياة وعنائها في ادوارها عبر الشاشة لكنني أسوق حالتين تؤكد قيمة هذه الفنانة الكبيرة الانموذج ..
الأولى : حالة تتعلق بنا نحن الذين أُعجبنا بها حد السحر .. ونحن شباب أخذتنا السينما الى مداخلها عشقاً وهياماً .. فكانت هي حماسنا إليها والى الافلام ونجومها - أو نجومنا المفضلين – حالة من الاندفاع اللامتناهي .. وليلى مراد حبيبتنا الاثيرة عندنا .. لم نكن نرضى ونحن عصبة سينمائية في أول الدرب! أن لا نرى فيلماً لها إلا في يوم الافتتاح! فكيف إذاً والفيلم هو " ليلى " المعتمد على رواية "غادة الكاميليا" التي تجسدت في مخيلتنا عبر ترجمة المنفلوطي حين كنا نحفظ منها مقاطع نقدمها في حفلات لقاءاتنا الشبابية انموذجاً من ادب ذلك الزمان!
في سينما الحمراء كان الافتتاح – وأذكر أن عرض الفيلم كان عام 1942 – والازدحام شديداً .. ونحن نتجمع في مدخل السينما وابن عمي المرحوم "خالد" كان اقوانا وهو الذي يخترق الصفوف ليصل الى شباك التذاكر عادة ليحصل على التذاكر .. ذلك اليوم كان الاختراق امراً صعباً .. فجأة تفتقت في اذهاننا فكرة ..ان يرفعوني فأنا اخفهم وزناً ويرموني فوق الصف المتجمع أمام شباك التذاكر لأسبح فوقهم حتى أصل الى الشباك!! قبلت .. ولم أجد نفسي إلا وأنا أسبح فوق رؤوس الناس .. وبين زحف وآخر تأتيني لكمات في بطني وصدري حتى وصلت الى الشباك ومددت يدي ودفعت ثمن التذاكر وتسلمتها وعدت الى "جماعتي" وأنا منتصر ..
لكنني فوجئت بهم يضحكون ضحكاً عالياً وهم ينظرون اليّ .. تساءلت لماذا؟ قالوا .. اين "قميصك"؟ نظرت الى نفسي فاذا بقميصي قد تمزق كله ولم يبقى له وجود!!
الثانية : في القاهرة عام 1986 وخلال مشاركتي في فيلم "اليوم السادس" إخراج يوسف شاهين .. كان يوسف يبحث عن أغنية "بتبص لي كده ليه" لليلى مراد لتكون خلفية في أحد مشاهد الفيلم .. حاولوا العثور على تسجيل لها .. حتى في الاذاعة فلم يجدوا له اثراً .. طلب يوسف شاهين من ابن ليلى مراد .. زكي عبد الوهاب وكان يعمل مساعداً له في الإخراج .. أن يفاتح أمه إن كانت مستعدة لتسجيل الاغنية .. وافقت وأجرت التسجيل .. وجاء ابنها زكي به وكان يوسف شاهين في غاية السعادة ..في اليوم الثاني طلبت الفنانة ليلى مراد اعادة الشريط .. لأنها حين استمعت الى النسخة التي عندها من التسجيل لم تجده بالمستوى المطلوب! تم التسجيل مرة ومرتين وثلاثا. حتى اقتنعت به وبعثته وهي راضية عنه. إنه موقف الفنان الذي يحترم فنه وتاريخه.
في ذلك اليوم رويت لزكي "حالتي" حين قطعت تذاكر فيلم "ليلى" عام 1942 وطلبت أن يروي الحادثة لأمه ليلى مراد كي تضحك .. ففعل ونقل اليّ شكرها لذاك الحماس الذي لم يزل قيمة كبيرة في نفوسنا ما محاها الزمان حتى بعد ان انقطعت عن الظهور على شاشة السينما ..
17-01-1996
يوسف العاني