القلب والجسد
قصة بحلقات
بقلم
وسام الشالجي
بقلم
وسام الشالجي
(1)
في مدينة بعشيقة الجميلة والتي تقع شمال شرق مدينة الموصل العراقية ترعرع سامر وقضى طفولته وحياته المدرسية . كان سامر الوسط بين اخيه الكبير واخته الصغرى لابيه وامه . وبعشيقة مدينة صغيرة من نواحي محافظة نينوى في شرقي دجلة , ولها نهر جار يشق وسطها ليسقي بساتينها التي تتكون على الغالب من أشجار الزيتون والنخل والحمضيات . كان والد سامر موظفا يعمل كمحاسب في احدى الدوائر الحكومية بالمدينة , وقد استطاع ان يربي اولاده تربية حسنة موفرا كل احتياجات اسرته بحيث عاشت بكنفه عيشة سعيدة راضية . كان شقيق سامر الاكبر (ثامر) يعيش في مدينة بغداد حيث اكمل دراسته الجامعية هناك وانخرط بالعمل في احدى الشركات بعد تخرجه مما اضطره الى الاستقرار بتلك المدينة . وبالرغم من استقرار ثامر في بغداد الا انه كان لا يغيب بصورة متصلة عن اهله لفترة تغيب عن الشهر , حيث كان يزور اهله بشكل دائم ومتواصل بدفع من اواصر الارتباط والمحبة التي زرعها الاب في نفوس اولاده . وكان سامر يحب شقيقه الاكبر كثيرا ويقتدي به في كل شيء . وحين اكمل سامر دراسته الثانوية اقترح على والده بان يلتحق بالدراسة الجامعية ببغداد كما فعل شقيقه الاكبر بدلا من الالتحاق بجامعة الموصل القريبة . رفض الوالد الفكرة في البداية لانه كان يخشى على ولده الشاب الغض من العيش في مدينة كبيرة وصاخبة كبغداد ويفضل ان يكون قريبا من بقدر الامكان . غير ان سامر ظل يلح على والده بطلبه هذا بينما كان الاب مترددا جدا .
- انا احب ان اطمئنك يا والدي باني ساعيش مع ثامر في نفس شقته وسأكون تحت انظاره فلا تقلق علي ابدا
قال سامر لابيه
- لكن بغداد مدينة كبيرة وستتطلب معيشتك بها مصاريف كثيرة
- انا اعدك بان لا اكلفك ابدا اكثر مما ستكلفه دراستي في الموصل , بل بالعكس فان دراستي بالموصل ربما ستكلف اكثر لاني ساكون وحيدا فيها
- لكن بالموصل يمكن ان تأتينا في نهاية كل اسبوع , بينما في بغداد لن يكون هذا سهلا
- الا يأتي ثامر كل شهر تقريبا الى هنا , انا سأتي معه في كل مرة
- حسنا , سنسأل ثامر ونأخذ رأيه حين يأتي في زيارته القادمة
انتظر والد سامر مجيء ثامر لكي يستشيره , وبالفعل حصل هذا خلال فترة قصيرة
- ولدي ثامر , كما تعرف فان اخيك سامر انهى دراسته الثانوية قبل فترة وجيزة وحصل على مجموع جيد يؤهله للقبول باحدى الكليات المرموقة . انا اريده ان يقدم للدراسة بجامعة الموصل ليكون قريبا مني بحيث استطيع متابعته بسهولة . لكنه يريد التقديم الى احدى الجامعات ببغداد مقتديا بتجربتك ونجاحك بالدراسة والعمل
- لا بأس يا والدي , دعه يمضي بناء على رغبته
- وهل انت مستعد ان تتكفل به ؟ انا اقصد من ناحية السكن والمتابعة وليس من ناحية المصاريف لاني سأتكفل بكل تكاليف معيشته ودراسته
- من ناحية السكن فهذا ليس صعبا , فبالرغم من ان شقتي تتكون من غرفة واحدة وصالة الا انه يستطيع ان يسكن معي في نفس غرفتي وانا لن اتضايق منه
- وماذا اذا قررت الزواج
- أوه يا والدي , لا اظن ان هذا قريب الحدوث
- لكنك متخرج منذ عدة سنوات يا ثامر ويجب ان لا تنتظر اكثر
- انا لم اجد لحد الان من تناسبني
- تستطيع والدتك ان تبحث لك عن بنت هنا
- كلا يا أبي , انا اريد واحدة من بغداد لاني اشعر باني ساقيم هناك لفترة طويلة , وانا لا اريد بنت لاتعرف شيئا عن المعيشة في تلك المدينة . كما اني اريدها من مستواي الدراسي لكي استطيع التفاهم معها
- حسنا , لكني انصحك يا ولدي بان لا تتأخر كثيرا في ايجاد من تناسبك , فكلما طالت العزوبية بالانسان اصبح من الصعب عليه ان يتقبل المعيشة مع شريكة حياة لاحقا
- لا تهتم ياوالدي , واعدك باني سافعل هذا باقرب فرصة . اما بالنسبة لسامر فأنا ساخذه معي الى بغداد عند عودتي هذه المرة لكي يقدم الى احدى الجامعات هناك وحتى يبدأ بالاعتياد على المعيشة في تلك المدينة
- وهل اطمئن عليه
- اطمئن يا والدي ولا تقلق
- حسنا
رافق سامر شقيقه ثامر عند عودته الى بغداد مصطحبا معه كل الاوراق والمستندات الضرورية التي تتيح له التقديم الى احدى الجامعات هناك . وعند وصوله الى تلك المدينة انبهر من حجمها الهائل وزحامها الشديد وكثرة الناس والسيارات فيها والشوارع العريضة والابنية الشاهقة , خصوصا وانه لم يرى من قبل اكثر من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى . وحين دخل سامر الى شقة اخيه المطلة على الشارع العام في مدينة الكرادة خارج , واطل من الشرفة شعر بان السعادة كلها قد هطلت عليه مرة واحدة . فهاهو أت الى بغداد ليدرس ويعيش بها , وهاهو يسكن في واحد من اجمل وارقى احياء هذه المدينة , وها هو سيتمتع من الان بقدر كبير من الحرية . كان كل شيء جميلا ورائعا في نظر سامر حتى انه احس بان كل احلامه التي كان يحلم بها بالماضي اصبحت حقيقة وواقعا ملموسا . نام سامر تلك الليلة وهو يتقلب في فراشه , اولا لشعوره بالاستغراب لانه لاول مرة في حياته يبيت في فراش غير فراشه . وثانيا لانه كان في حالة كبيرة من الفرح الغامر الذي لم يترك اجفانه تنطبق على بعضها . كان يفكر بحياته القادمة وكيف سيقضيها سواء بالبيت او بمدينة بغداد او بالجامعة التي هو على عتبة ابوابها . وبالرغم من حالة الارق التي سيطرت عليه , الا انه لم يتضايق ابدا بل كان سعيدا للغاية . وفي اليوم التالي راجع سامر مركز التقديم الذي ارشده اليه شقيقه , وهناك قدم وثائقه المدرسية ومستنداته الاخرى ولم يبقى من شيء يجب ان يعمله غير انتظار نتائج القبول التي تظهر عادة بعد مدة شهرين من التقديم . ولقضاء هذه المدة , وضع ثامر برنامجا لاخيه لكي يريه معالم مدينة بغداد وفي نفس الوقت يدله على مناطقها الرئيسية وشوارعها وكيفية التنقل من مكان الى اخر . وفي عصر كل يوم كان ثامر يصطحب اخيه الى مكان ما ليريه اهم ما في تلك المنطقة من اماكن واسواق ومحلات ومطاعم . كان سامر ذكيا ونبها , لهذا لم يكن من الصعب عليه بان يستوعب كل الدروس التي اراد اخيه من ان يتعلمها . لم تمضي اكثر من اسبوعين حتى اصبح سامر قادر على تدبير كل شئونه بنفسه , فقد تعرف على مناطق بغداد الرئيسية ومواقع جامعاتها وكلياتها وطرق المواصلات التي يمكن ان توصله الى اي مكان يريده . كما تعرف على منطقة التسوق الرئيسية في منطقة الكرادة حيث يجب ان يتبضع ويوفر احتياجات البيت . كما انه تعلم ايضا كيف يطبخ ويهيء بعض الاكلات الضرورية لكي يرفع عن كاهل اخيه بعض المسؤوليات خصوصا وانه غالبا ما يأتي من عمله متعبا .
مرت مدة الشهرين بسرعة تخللتها زيارة لعدة ايام قام بها الشقيقان لمدينة بعشيقة لرؤية الاهل . واخيرا ظهرت نتائج القبول واصبح يتعين على سامر الذهاب الى مركز التقديم لمعرفة الكلية التي نسب اليها . كم كانت سعادة سامر هائلة حين علم بانه قبل في كلية الهندسة لانها فعلا كان طموحه وما يتمناه . ومن مركز التقديم عاد سامر مسرعا الى الشقة لكي يتصل بوالده من جهاز التليفون الموجود هناك
- بابا بابا , حبيبي ابشرك , لقد قبلت بكلية الهندسة بجامعة بغداد
- صحيح ؟ انا كنت اعرف هذا واتوقعه فانت طالب ذكي ومجد وتستحق هذه النتيجة
- انا فرح جدا يا ابي والدنيا لا تسعني
- الف مبروك يا حبيبي , وانشاء الله شهادات اعلى واعلى
- هذ نتيجة ما ربيتنا عليه يا ابي الحبيب
- لا تقل هذا يا بني , بل هذا نتيجة لجدك ومثابرتك واجتهادك . مبروك مرة اخرى , ولك من ابيك كل الدعاء وكل الصلواة لكي يحقق الله لك كل ما تتمناه
- شكر يا ابتي , تحياتي لماما واختي
- يوصل ان شاء الله
خلال فترة لم تتجاوز الاسبوع داوم سامر بالكلية التي تقع ضمن مجمع جامعة بغداد الواقع بالجادرية في منطقة من اجمل مناطق بغداد . ومن المشاهدة الاولى سحر المكان والموقع قلب سامر , فكل شيء كان جميلا , مجمع الجامعة بشوارعه البديعة التي ترتفع على جوانبها الاشجار الباسقة التي تمد فروعها لتتعانق مع بعضها فوق مسار الطريق الذي يلي بوابة الجامعة , وابنية الكلية الحديثة بقاعاتها وساحاتها وحدائقها الغناء , والنادي الجميل حيث يلتقي الطلبة ويقضون ساعات فراغهم . وضمن هذه المشاهد التي تسحر الالباب أيقن سامر بانه سيقضي فترة بهذه الكلية ستكون بحق من اجمل فترات عمره وانه سيتعرف على الكثير من الأصدقاء والصديقات , خصوصا وانه ذو شخصية اجتماعية قوية وشكل وسيم وقوام بديع يوحي بالشباب والحيوية والتألق . كان في نفس سامر الكثير والكثير من الاشياء التي يعتزم عملها بعد بدأ الدوام , اولها هو ان يؤلف شلة من الاصدقاء لكي يمارس من خلالهم نشاطاته الاجتماعية وبعض هواياته مثل العزف على الكيتار واقامة الحفلات الغنائية . وبالفعل فقد مضى بهذه الروحية منذ اليوم الاول لدوامه بالكلية , فقد راح يتعرف على طلاب وطالبات شعبته الدراسية ويتبادل الاحاديث معهم في محاولة للتعرف عليهم وعلى اهتماماتهم . وبعد اقل من اسبوع التف حوله عدد من الطلبة واصبحوا مكونين لمجموعة جميلة تشكل باقة بديعة من النفوس المتفائلة والمتطلعة للامام . وما هي الا فترة لم تتجاوز الشهر من بدأ الدوام حتى اصبح سامر وجه محبوب ومرموق ومحور اهتمام كافة طلبة شعبته الدراسية لما كان يتمتع به من روح اجتماعية ومجاملة واهتمام بالاخرين .
وبالاضافة الى كل خواص سامر الايجابية فانه كان يتمتع في ذات الوقت بقلب عاطفي كبير ونفس ميالة جدا , فقد كان يذوب بالجنس الاخر ويتطلع الى ان يجد بسرعة فتاة احلامه التي كان واثقا بانه سيصادفها في دراسته بالكلية . وهذا بالفعل ما حصل , اذ لم يتأخر الله تعالى بان يضع في طريقه طالبة جميلة جدا ومن عائلة مرموقة وذات اخلاق وتربية عاليتين . تلك كانت (ملاك) التي هي احدى طالبات شعبته الدراسية وايضا أحدى طالبات الشعبة الفرعية التي هو بها . كانت ملاك طالبة شقراء ذات شعر سبل ينساب على كتفيها بخصاله التي تشبه الذهب الخالص , ووجه ساحر ينطبق تماما على اسمها , ووجنتان ورديتان وعينان خضراويتان وقوام اشبه بقوام الغزال من جمال رشاقته وتناسق اعضائه . كان المرء لا يستطيع ان يوقف عيناه من النظر اليها بمجرد ان يقع عليها بصره من شدة جاذبيتها . كما انها كانت تعتني بملابسها بشكل غير طبيعي مما يضفي بحلاوة كبيرة على مظهرها . من اول يوم للدوام احس سامر بميل شديد نحوها فلم يتردد من التقدم اليها وتعريفها بنفسه , وقد قابلت خطوته تلك باهتمام عادي كأي طالب من طلبة شعبتها . لكن بعد فترة , وبعد ان تعرفت على شخصيته ورات اهتمام الاخرين الشديد به وسعي معظم الفتيات في الصف الى التعرف عليه وكسب وده اصبحت تنظر اليه بنظرة خاصة فيها اهتمام واعجاب كبيرين . كان سامر مهتم بان تصبح ملاك واحدة من مجموعته المقربة التي احب ان يكونها , ولم تتردد هي في التجاوب مع مساعيه وبالفعل اصبحت هي وهو وعدد اخر من الطلبة والطالبات يشكلون واحدة من اجمل وابدع المجموعات بالكلية . ومن خلال جلساتهم بالنادي وتسامرهم مع بعضهم اخذ سامر يعرف المزيد والمزيد عن ملاك , ويتيقن بشكل اكبر واكبر بانها قد تكون فعلا فتاة الاحلام التي يتوق للقائها .
بعد حوالي شهر من بدأ الدراسة اخذ الجميع يتهيأ لحضور حفلة التعارف الكبرى التي تقيمها الكلية سنويا على شرف الطلبة الجدد . اخذ سامر يشجع اصدقائه على ان يحيوا هذه الحفلة من خلال تشكيل فرقة موسيقية غنائية تساهم بتقديم بعض الاغاني الشبابية في تلك الحفلة . راقت الفكرة لافراد المجموعة ممن يجيدون العزف على الات الموسيقية وقرروا تشكيل فرقة غنائية موسيقية سموها بفرقة (سمارة) تيمنا بصاحب فكرتها سامر الذي تطوع بان يكون مغني هذه الفرقة بالاضافة الى كونه عازف الكيتار فيها . لم تكن ملاك ضمن هذه الفرقة فهي لم تكن تجيد العزف ولا الغناء لكنها ساهمت بتشجيعهم وحضور معظم جلسات التدريب التي كانو يقيمونها . وفي يوم الحفلة التي عقدت مساءا بقاعة الكلية حضر الجميع متأنقين ومرتدين افضل ملابسهم . كانت ملاك اكثر وجه متألق في الحفلة لروعة الفستان الذي كانت ترتديه واعتنائها بمظهرها بشكل غير عادي حتى بدت وكانها اميرة من الاميرات . لم يحتمل سامر نفسه وقرر ان يفاتحها بمشاعره حتما في تلك الليلة بعد ان يقدم مع فرقته بعض الوصلات الغنائية . بدأت الحفلة بفقرات مختلفة قسم منها غنائي وقسم منها تمثيلي وعروض كوميدية وغيرها . ثم جاء الدور على فرقة (سمارة) الغنائية فقدمت مجموعة من الاغاني التي أداها سامر لاقت تفاعل منقطع النظير من الحاضرين حيث أخذ الجميع يغنون معه ويطلبون منه الاعادة مرات ومرات . وبعد الانتهاء من الفترة المخصصة للفرقة سارع سامر الى موقع جلوس ملاك في القاعة وقال لها
- ملاك , ما رايك بالوصلات الغنائية التي قدمناها
- اكثر من رائعة يا سامر , لقد كان اعجاب الحاضرين بها شديدا حتى ان يداي تعبتا من التصفيق لك ولباقي احبتنا بالفرقة
- ان تشجيعاتك لنا اثناء التدريب كانت عامل مباشر بنجاح ما قدمناه , لهذا فان افراد الفرقة مصرين على تقديم هدية لك
- هدية ؟ اوه انا لا استحق هذا
- لا تقولي هذا يا ملاك , هيا تعالي معي لاستلام الهدية
جر سامر ملاك من يدها فقامت معه واتجها الى بوابة القاعة
- سامر الى اين تأخذني
- هناك , فأعضاء الفرقة ينتظرونك لتقديم الهدية
- اين
- هناك
ظل سامر يجر ملاك من يدها ملتفا حول القاعة حتى وصل الى مكان شبه منزوي تحت احدى الاشجار , وهناك قال لها
- ملاك , هل تعرفين شيئا ؟
- ما هو ؟
اشار سامر نحو القمر الذي كان بدرا يظهر بوضوح من بين اغصان الشجرة التي فوقهما , ثم قال
- اترين هذا البدر كم هو بديع وكم تغنى الشعراء والكتاب منذ الازل بروعته وجماله , انت اجمل منه الف مرة . اترين هذه الاغصان التي تتدلى منها الاوراق الخضراء الممتلئة بالحيوية والشباب , انت اكثر حيوية وشبابا وبداعة منها الف مرة . اتشمين هذه النسمات الباردة التي تهب علينا من الحدائق الغناء الممتلئة بالازهار الرائعة التي تحيط بنا من كل جانب , انت اعذب وارق منها الف مرة . اترين هذه الحياة الحلوة التي تملئنا بنشوة حبها وتدفعنا لان نتذوق جمالياتها , انت احلى منها الف مرة
- سامر , ما هذا الكلام الجميل ؟ هل انا كل هذا ؟
- بل هذا لا شيء قياسا بك وبجمالك
- .....
- انا احبك يا ملاك
- .....
- انا احبك لدرجة لا استوعبها , انا احبك اكثر من روحي وكل كياني , بل ان كلمة احبك لا يمكن ان تصف حتى جزء بسيط مما اشعره تجاهك
- سامر
- فهل تقبلين بان تكوني فتاة احلامي
- ......
مسك سامر يد ملاك وطبع عليها قبلة ثم غمر وجهه براحتها وهو يشم رائحة عطرها الاخاذ الذي كان يفوح منها
- سامر
- لا اريد لهذه اللحظات ان تنتهي
- ولا انا , لكن علينا ان نعود فقد يشعر الاخرين بغيابنا
- اوه , تبا للاخرين الذين يجب علي ان أقطع اجمل موقف في حياتي بسببهم
- اللحظات الجميلة دائما قصيرة
- هل قبلت الهدية التي كنت اريد ان اقدمها لك يا ملاك
- اكثر من قبلت , ولا تتصور كم هي هدية رائعة , لن انسى هذه اللحظات ما حييت
- انا احب ان اطمئنك يا والدي باني ساعيش مع ثامر في نفس شقته وسأكون تحت انظاره فلا تقلق علي ابدا
قال سامر لابيه
- لكن بغداد مدينة كبيرة وستتطلب معيشتك بها مصاريف كثيرة
- انا اعدك بان لا اكلفك ابدا اكثر مما ستكلفه دراستي في الموصل , بل بالعكس فان دراستي بالموصل ربما ستكلف اكثر لاني ساكون وحيدا فيها
- لكن بالموصل يمكن ان تأتينا في نهاية كل اسبوع , بينما في بغداد لن يكون هذا سهلا
- الا يأتي ثامر كل شهر تقريبا الى هنا , انا سأتي معه في كل مرة
- حسنا , سنسأل ثامر ونأخذ رأيه حين يأتي في زيارته القادمة
انتظر والد سامر مجيء ثامر لكي يستشيره , وبالفعل حصل هذا خلال فترة قصيرة
- ولدي ثامر , كما تعرف فان اخيك سامر انهى دراسته الثانوية قبل فترة وجيزة وحصل على مجموع جيد يؤهله للقبول باحدى الكليات المرموقة . انا اريده ان يقدم للدراسة بجامعة الموصل ليكون قريبا مني بحيث استطيع متابعته بسهولة . لكنه يريد التقديم الى احدى الجامعات ببغداد مقتديا بتجربتك ونجاحك بالدراسة والعمل
- لا بأس يا والدي , دعه يمضي بناء على رغبته
- وهل انت مستعد ان تتكفل به ؟ انا اقصد من ناحية السكن والمتابعة وليس من ناحية المصاريف لاني سأتكفل بكل تكاليف معيشته ودراسته
- من ناحية السكن فهذا ليس صعبا , فبالرغم من ان شقتي تتكون من غرفة واحدة وصالة الا انه يستطيع ان يسكن معي في نفس غرفتي وانا لن اتضايق منه
- وماذا اذا قررت الزواج
- أوه يا والدي , لا اظن ان هذا قريب الحدوث
- لكنك متخرج منذ عدة سنوات يا ثامر ويجب ان لا تنتظر اكثر
- انا لم اجد لحد الان من تناسبني
- تستطيع والدتك ان تبحث لك عن بنت هنا
- كلا يا أبي , انا اريد واحدة من بغداد لاني اشعر باني ساقيم هناك لفترة طويلة , وانا لا اريد بنت لاتعرف شيئا عن المعيشة في تلك المدينة . كما اني اريدها من مستواي الدراسي لكي استطيع التفاهم معها
- حسنا , لكني انصحك يا ولدي بان لا تتأخر كثيرا في ايجاد من تناسبك , فكلما طالت العزوبية بالانسان اصبح من الصعب عليه ان يتقبل المعيشة مع شريكة حياة لاحقا
- لا تهتم ياوالدي , واعدك باني سافعل هذا باقرب فرصة . اما بالنسبة لسامر فأنا ساخذه معي الى بغداد عند عودتي هذه المرة لكي يقدم الى احدى الجامعات هناك وحتى يبدأ بالاعتياد على المعيشة في تلك المدينة
- وهل اطمئن عليه
- اطمئن يا والدي ولا تقلق
- حسنا
رافق سامر شقيقه ثامر عند عودته الى بغداد مصطحبا معه كل الاوراق والمستندات الضرورية التي تتيح له التقديم الى احدى الجامعات هناك . وعند وصوله الى تلك المدينة انبهر من حجمها الهائل وزحامها الشديد وكثرة الناس والسيارات فيها والشوارع العريضة والابنية الشاهقة , خصوصا وانه لم يرى من قبل اكثر من مدينة الموصل مركز محافظة نينوى . وحين دخل سامر الى شقة اخيه المطلة على الشارع العام في مدينة الكرادة خارج , واطل من الشرفة شعر بان السعادة كلها قد هطلت عليه مرة واحدة . فهاهو أت الى بغداد ليدرس ويعيش بها , وهاهو يسكن في واحد من اجمل وارقى احياء هذه المدينة , وها هو سيتمتع من الان بقدر كبير من الحرية . كان كل شيء جميلا ورائعا في نظر سامر حتى انه احس بان كل احلامه التي كان يحلم بها بالماضي اصبحت حقيقة وواقعا ملموسا . نام سامر تلك الليلة وهو يتقلب في فراشه , اولا لشعوره بالاستغراب لانه لاول مرة في حياته يبيت في فراش غير فراشه . وثانيا لانه كان في حالة كبيرة من الفرح الغامر الذي لم يترك اجفانه تنطبق على بعضها . كان يفكر بحياته القادمة وكيف سيقضيها سواء بالبيت او بمدينة بغداد او بالجامعة التي هو على عتبة ابوابها . وبالرغم من حالة الارق التي سيطرت عليه , الا انه لم يتضايق ابدا بل كان سعيدا للغاية . وفي اليوم التالي راجع سامر مركز التقديم الذي ارشده اليه شقيقه , وهناك قدم وثائقه المدرسية ومستنداته الاخرى ولم يبقى من شيء يجب ان يعمله غير انتظار نتائج القبول التي تظهر عادة بعد مدة شهرين من التقديم . ولقضاء هذه المدة , وضع ثامر برنامجا لاخيه لكي يريه معالم مدينة بغداد وفي نفس الوقت يدله على مناطقها الرئيسية وشوارعها وكيفية التنقل من مكان الى اخر . وفي عصر كل يوم كان ثامر يصطحب اخيه الى مكان ما ليريه اهم ما في تلك المنطقة من اماكن واسواق ومحلات ومطاعم . كان سامر ذكيا ونبها , لهذا لم يكن من الصعب عليه بان يستوعب كل الدروس التي اراد اخيه من ان يتعلمها . لم تمضي اكثر من اسبوعين حتى اصبح سامر قادر على تدبير كل شئونه بنفسه , فقد تعرف على مناطق بغداد الرئيسية ومواقع جامعاتها وكلياتها وطرق المواصلات التي يمكن ان توصله الى اي مكان يريده . كما تعرف على منطقة التسوق الرئيسية في منطقة الكرادة حيث يجب ان يتبضع ويوفر احتياجات البيت . كما انه تعلم ايضا كيف يطبخ ويهيء بعض الاكلات الضرورية لكي يرفع عن كاهل اخيه بعض المسؤوليات خصوصا وانه غالبا ما يأتي من عمله متعبا .
مرت مدة الشهرين بسرعة تخللتها زيارة لعدة ايام قام بها الشقيقان لمدينة بعشيقة لرؤية الاهل . واخيرا ظهرت نتائج القبول واصبح يتعين على سامر الذهاب الى مركز التقديم لمعرفة الكلية التي نسب اليها . كم كانت سعادة سامر هائلة حين علم بانه قبل في كلية الهندسة لانها فعلا كان طموحه وما يتمناه . ومن مركز التقديم عاد سامر مسرعا الى الشقة لكي يتصل بوالده من جهاز التليفون الموجود هناك
- بابا بابا , حبيبي ابشرك , لقد قبلت بكلية الهندسة بجامعة بغداد
- صحيح ؟ انا كنت اعرف هذا واتوقعه فانت طالب ذكي ومجد وتستحق هذه النتيجة
- انا فرح جدا يا ابي والدنيا لا تسعني
- الف مبروك يا حبيبي , وانشاء الله شهادات اعلى واعلى
- هذ نتيجة ما ربيتنا عليه يا ابي الحبيب
- لا تقل هذا يا بني , بل هذا نتيجة لجدك ومثابرتك واجتهادك . مبروك مرة اخرى , ولك من ابيك كل الدعاء وكل الصلواة لكي يحقق الله لك كل ما تتمناه
- شكر يا ابتي , تحياتي لماما واختي
- يوصل ان شاء الله
خلال فترة لم تتجاوز الاسبوع داوم سامر بالكلية التي تقع ضمن مجمع جامعة بغداد الواقع بالجادرية في منطقة من اجمل مناطق بغداد . ومن المشاهدة الاولى سحر المكان والموقع قلب سامر , فكل شيء كان جميلا , مجمع الجامعة بشوارعه البديعة التي ترتفع على جوانبها الاشجار الباسقة التي تمد فروعها لتتعانق مع بعضها فوق مسار الطريق الذي يلي بوابة الجامعة , وابنية الكلية الحديثة بقاعاتها وساحاتها وحدائقها الغناء , والنادي الجميل حيث يلتقي الطلبة ويقضون ساعات فراغهم . وضمن هذه المشاهد التي تسحر الالباب أيقن سامر بانه سيقضي فترة بهذه الكلية ستكون بحق من اجمل فترات عمره وانه سيتعرف على الكثير من الأصدقاء والصديقات , خصوصا وانه ذو شخصية اجتماعية قوية وشكل وسيم وقوام بديع يوحي بالشباب والحيوية والتألق . كان في نفس سامر الكثير والكثير من الاشياء التي يعتزم عملها بعد بدأ الدوام , اولها هو ان يؤلف شلة من الاصدقاء لكي يمارس من خلالهم نشاطاته الاجتماعية وبعض هواياته مثل العزف على الكيتار واقامة الحفلات الغنائية . وبالفعل فقد مضى بهذه الروحية منذ اليوم الاول لدوامه بالكلية , فقد راح يتعرف على طلاب وطالبات شعبته الدراسية ويتبادل الاحاديث معهم في محاولة للتعرف عليهم وعلى اهتماماتهم . وبعد اقل من اسبوع التف حوله عدد من الطلبة واصبحوا مكونين لمجموعة جميلة تشكل باقة بديعة من النفوس المتفائلة والمتطلعة للامام . وما هي الا فترة لم تتجاوز الشهر من بدأ الدوام حتى اصبح سامر وجه محبوب ومرموق ومحور اهتمام كافة طلبة شعبته الدراسية لما كان يتمتع به من روح اجتماعية ومجاملة واهتمام بالاخرين .
وبالاضافة الى كل خواص سامر الايجابية فانه كان يتمتع في ذات الوقت بقلب عاطفي كبير ونفس ميالة جدا , فقد كان يذوب بالجنس الاخر ويتطلع الى ان يجد بسرعة فتاة احلامه التي كان واثقا بانه سيصادفها في دراسته بالكلية . وهذا بالفعل ما حصل , اذ لم يتأخر الله تعالى بان يضع في طريقه طالبة جميلة جدا ومن عائلة مرموقة وذات اخلاق وتربية عاليتين . تلك كانت (ملاك) التي هي احدى طالبات شعبته الدراسية وايضا أحدى طالبات الشعبة الفرعية التي هو بها . كانت ملاك طالبة شقراء ذات شعر سبل ينساب على كتفيها بخصاله التي تشبه الذهب الخالص , ووجه ساحر ينطبق تماما على اسمها , ووجنتان ورديتان وعينان خضراويتان وقوام اشبه بقوام الغزال من جمال رشاقته وتناسق اعضائه . كان المرء لا يستطيع ان يوقف عيناه من النظر اليها بمجرد ان يقع عليها بصره من شدة جاذبيتها . كما انها كانت تعتني بملابسها بشكل غير طبيعي مما يضفي بحلاوة كبيرة على مظهرها . من اول يوم للدوام احس سامر بميل شديد نحوها فلم يتردد من التقدم اليها وتعريفها بنفسه , وقد قابلت خطوته تلك باهتمام عادي كأي طالب من طلبة شعبتها . لكن بعد فترة , وبعد ان تعرفت على شخصيته ورات اهتمام الاخرين الشديد به وسعي معظم الفتيات في الصف الى التعرف عليه وكسب وده اصبحت تنظر اليه بنظرة خاصة فيها اهتمام واعجاب كبيرين . كان سامر مهتم بان تصبح ملاك واحدة من مجموعته المقربة التي احب ان يكونها , ولم تتردد هي في التجاوب مع مساعيه وبالفعل اصبحت هي وهو وعدد اخر من الطلبة والطالبات يشكلون واحدة من اجمل وابدع المجموعات بالكلية . ومن خلال جلساتهم بالنادي وتسامرهم مع بعضهم اخذ سامر يعرف المزيد والمزيد عن ملاك , ويتيقن بشكل اكبر واكبر بانها قد تكون فعلا فتاة الاحلام التي يتوق للقائها .
بعد حوالي شهر من بدأ الدراسة اخذ الجميع يتهيأ لحضور حفلة التعارف الكبرى التي تقيمها الكلية سنويا على شرف الطلبة الجدد . اخذ سامر يشجع اصدقائه على ان يحيوا هذه الحفلة من خلال تشكيل فرقة موسيقية غنائية تساهم بتقديم بعض الاغاني الشبابية في تلك الحفلة . راقت الفكرة لافراد المجموعة ممن يجيدون العزف على الات الموسيقية وقرروا تشكيل فرقة غنائية موسيقية سموها بفرقة (سمارة) تيمنا بصاحب فكرتها سامر الذي تطوع بان يكون مغني هذه الفرقة بالاضافة الى كونه عازف الكيتار فيها . لم تكن ملاك ضمن هذه الفرقة فهي لم تكن تجيد العزف ولا الغناء لكنها ساهمت بتشجيعهم وحضور معظم جلسات التدريب التي كانو يقيمونها . وفي يوم الحفلة التي عقدت مساءا بقاعة الكلية حضر الجميع متأنقين ومرتدين افضل ملابسهم . كانت ملاك اكثر وجه متألق في الحفلة لروعة الفستان الذي كانت ترتديه واعتنائها بمظهرها بشكل غير عادي حتى بدت وكانها اميرة من الاميرات . لم يحتمل سامر نفسه وقرر ان يفاتحها بمشاعره حتما في تلك الليلة بعد ان يقدم مع فرقته بعض الوصلات الغنائية . بدأت الحفلة بفقرات مختلفة قسم منها غنائي وقسم منها تمثيلي وعروض كوميدية وغيرها . ثم جاء الدور على فرقة (سمارة) الغنائية فقدمت مجموعة من الاغاني التي أداها سامر لاقت تفاعل منقطع النظير من الحاضرين حيث أخذ الجميع يغنون معه ويطلبون منه الاعادة مرات ومرات . وبعد الانتهاء من الفترة المخصصة للفرقة سارع سامر الى موقع جلوس ملاك في القاعة وقال لها
- ملاك , ما رايك بالوصلات الغنائية التي قدمناها
- اكثر من رائعة يا سامر , لقد كان اعجاب الحاضرين بها شديدا حتى ان يداي تعبتا من التصفيق لك ولباقي احبتنا بالفرقة
- ان تشجيعاتك لنا اثناء التدريب كانت عامل مباشر بنجاح ما قدمناه , لهذا فان افراد الفرقة مصرين على تقديم هدية لك
- هدية ؟ اوه انا لا استحق هذا
- لا تقولي هذا يا ملاك , هيا تعالي معي لاستلام الهدية
جر سامر ملاك من يدها فقامت معه واتجها الى بوابة القاعة
- سامر الى اين تأخذني
- هناك , فأعضاء الفرقة ينتظرونك لتقديم الهدية
- اين
- هناك
ظل سامر يجر ملاك من يدها ملتفا حول القاعة حتى وصل الى مكان شبه منزوي تحت احدى الاشجار , وهناك قال لها
- ملاك , هل تعرفين شيئا ؟
- ما هو ؟
اشار سامر نحو القمر الذي كان بدرا يظهر بوضوح من بين اغصان الشجرة التي فوقهما , ثم قال
- اترين هذا البدر كم هو بديع وكم تغنى الشعراء والكتاب منذ الازل بروعته وجماله , انت اجمل منه الف مرة . اترين هذه الاغصان التي تتدلى منها الاوراق الخضراء الممتلئة بالحيوية والشباب , انت اكثر حيوية وشبابا وبداعة منها الف مرة . اتشمين هذه النسمات الباردة التي تهب علينا من الحدائق الغناء الممتلئة بالازهار الرائعة التي تحيط بنا من كل جانب , انت اعذب وارق منها الف مرة . اترين هذه الحياة الحلوة التي تملئنا بنشوة حبها وتدفعنا لان نتذوق جمالياتها , انت احلى منها الف مرة
- سامر , ما هذا الكلام الجميل ؟ هل انا كل هذا ؟
- بل هذا لا شيء قياسا بك وبجمالك
- .....
- انا احبك يا ملاك
- .....
- انا احبك لدرجة لا استوعبها , انا احبك اكثر من روحي وكل كياني , بل ان كلمة احبك لا يمكن ان تصف حتى جزء بسيط مما اشعره تجاهك
- سامر
- فهل تقبلين بان تكوني فتاة احلامي
- ......
مسك سامر يد ملاك وطبع عليها قبلة ثم غمر وجهه براحتها وهو يشم رائحة عطرها الاخاذ الذي كان يفوح منها
- سامر
- لا اريد لهذه اللحظات ان تنتهي
- ولا انا , لكن علينا ان نعود فقد يشعر الاخرين بغيابنا
- اوه , تبا للاخرين الذين يجب علي ان أقطع اجمل موقف في حياتي بسببهم
- اللحظات الجميلة دائما قصيرة
- هل قبلت الهدية التي كنت اريد ان اقدمها لك يا ملاك
- اكثر من قبلت , ولا تتصور كم هي هدية رائعة , لن انسى هذه اللحظات ما حييت
- يتبع -