الدكتورة مارت كَوتْيَّه ( Marthe Gautier)
مكتشفة اول مرض جيني في العالم
والمشرفة على اطروحتي للدكتوراه
ان أغلب المعلومات الواردة ادناه تنشر لأول مرة في اللغة العربية وقسم منها ينشر لأول مرة على الاطلاق. ومعلوماتي مستمدة من معرفتي الشخصية اثناء عملي مع العالمة الدكتورة "ماغت كَوتْيَّه" ( 1925- ) لعدة سنوات ومن اتصالات شخصية مع من واكب قصة الاكتشاف ومنهم عضو في اكاديمية الطب وكذلك من مصادر نشرت حديثاً في اللغتين الفرنسية والانكليزية. وقصة الاكتشاف في عام 1958 هي بحد ذاتها مشوقة ومؤلمة في الوقت ذاته ، والمكتشفه نفسها تقول انها لا تحتفظ بذكريات طيبة عن تلك الفترة. لقد صاحب هذا الاكتشاف العلمي الكبير ونشره التباسات وطمس لبعض الحقائق مما ادى الى خلق ضجة ، علمية واخلاقية ، اخذت ( ولا زالت ) تزداد وتكبر بمرور الزمن رغم مرور 60 عاماً على الاكتشاف ، ووصلت الى قمتها عامي 2009 و 2014 حيث كان الموضوع حديث الصحف العلمية والجرائد اليومية في فرنسا وامريكا وبريطانيا ودول اخرى ، ودخلت الاوساط الطبية والعلمية في مواقف محرجة للغاية ... حتى ان بعض القضايا المتعلقة بالموضوع وصلت الى قداسة البابا. والأعجب من هذا وذاك ان جائزة نوبل قد حجبت عن هذا الاكتشاف الذي بفضله تم ويتم انقاذ الاف العوائل سنوياً ، رغم ان الجائزة هي اقل ما يمكن ان يتوج به هذا الاكتشاف..وستعرفون التفاصيل بعد قليل.
من منا لم يسمع باسم المرض الجيني TRISOMY 21 والذي يكتب في العربية التثلث الصبغي 21 او الترايسومي 21 او متلازمة داون ( Down Syndrome ) او المرض المغولي ؟ و خاصة عندما اصبح مسح او تشخيص المرض عند المرأة الحامل في سن معينة متوفر وضروري لأن الاحتمال بالاصابة به تزداد بتقدم العمر. اما اعراض المرض فتتمثل بتشوهات خلقية وتخلف عقلي وعاهات تعقد حياة المصاب وعائلته بشكل فضيع. في فرنسا يتم الفحص عند الحامل بعمر 38 سنة وما فوق ويتم على عينة من السائل الامنيوتي الذي يحيط ويحمي الجنين . علماً ان نسبة الاصابة به تصل الى حوالي واحد من 700 ولادة وهي نسبة لا يستهان بها ( 1 الى 1000 بعمر 30 سنة ، 1 الى 187 بعمر 38 سنة ، و 1 الى 50 بعمر 50 سنة ).
القسم الاول سأخصصه لموضوع الاكتشاف والقسم الثاني الذي لم انهي كتابته بعد سيكون حول تجربتي مع العالمة مارت كَوتْيَه التي استمرت ما يقارب السبعة سنوات في مختبرها في مستشفى الكرملن بيستغ Le Kremlin – Bicêtre .
القسم الأول
قصة اكتشاف الترايسومي 21 (Trisomy 21 )
ما قبل الاكتشاف : البدايات
جاءت مارت كَوتْيَّه الى باريس قادمة من احد ارياف فرنسا ، وسط معمعة الحرب العالمية الثانية التي كانت تقترب من نهايتها ، والتحقت بشقيقتها الكبرى التي كانت تعمل طبيبة مبتدئة وهي في المرحلة النهائية من دراسة الطب. فقالت لها شقيقتها " ان تكوني امرأة ولستِ ابنة مسؤول كير فعليكِ ان تكوني افضل مرتين من اجل الوصول الى النجاح ". ودرست مارت الطب وسط صعوبات جمة منها ان اختها قد قتلت عام 1944 من قبل الالمان اثناء فترة التحرير ، فكان عليها ان تعوض عائلتها المفجوعة بعض تلك الخسارة. ونجحت في الطب واستطاعت ان تحصل على عمل في احدى المستشفيات في فترة كانت تعتبر صعبة بالنسبة الى المرأة للحصول على عمل ، فمن بين 80 طبيباً كان يوجد امرأتين لا اكثر. وبعد اربعة سنوات من العمل والتدرب على يد الاستاذ " ر.دوبرية Robert Debré " الذي كان يعد ابو طب الاطفال ، حصلت على زمالة لمدة عام الى جامعة هارفر الامريكية على امل العودة بعد ذلك لتستلم وظيفة مخصصة لها. والهدف كان دراسة امراض القلب عند الاطفال ولكن ضمن ما تعلمته في بوستن كان ايضاً احدث الطرق في زرع الخلايا في مختبر خاص بذلك وكانت تعتبر من الوسائل الجديدة والمهمة. اما ما تعلمته من الحياة في الولايات المتحدة الامريكية فهو شيء اخر اذ شعرت انهم يعاملون الفرنسيون على اساس انهم من بلد نامي ، ومنذ ذلك الحين اخذت هذه الطبيبة الشابة على عاتقها الدفاع عن حقوق المهاجرين في العالم.
سنوات الاكتشاف : باحثة رائدة وقادم جديد طموح
وبعد عودتها الى فرنسا علمت ان الوظيفة المخصصة لها قد اعطيت لشخص آخر ، فعملت في مستشفى "تروسو TROUSSEAU". كانت اهتمامات مدير المستشفى ( البروفسور تيربان TURPIN ) الرئيسية مكرسة لدراسة التشوهات الخلقية الوراثية وسط منافسة شديدة بين الباحثين من الامريكان والفرنسيين والانكليز. في عام 1956 ، وبعد مشاركته في المؤتمر العالمي لعلم الجينات البشرية في كوبنهاجن ، والذي اتضح فيه ان عدد الكروسومات عند الانسان هو 46 وليس 48 كما كان يُعتَقد ، ابدى للأطباء العاملين معه اسفه لعدم وجود مختبر لزرع الخلايا في باريس لما له من ضرورة في تعداد كروموسومات مرض " المغولي : التسمية القديمة لمرض التثلث الصبغي او الترايسومي 21 ". فأبدت الطبيبة مارت كَوتْيَّه استعدادها لفتح مثل هذا المختبر حيث انها تعلمت زرع الخلايا في بوستن ، على ان يخصصوا لها مكان في المستشفى. كانت الامكانيات المالية بعد الحرب العالمية الثانية لا زالت ضعيفة ولكن الدكتورة كَوتيه استطاعت ان تحصل على المكان وجهزته بثلاجة وجهاز طرد ودولاب فارغ وميكروسكوب بسيط جداً. وكان عليها وبإمكانياتها المالية الخاصة والضعيفة والاستدانة ان توفر بعض الزجاجيات وجهاز تقطير للماء والمواد اللازمة لزراعة الخلايا. تقول الدكتورة " انها قد صممت على فتح المختبر ولن تلوي ذراعها للصعاب " . فكانت تحصل على البلازما ( مهم لزراعة الخلايا ) من دم ديك اشترته لهذه الغاية وربته في حديقة المستشفى ، وقررت ان تستخدم دمها في استخلاص " السيرم " المصل الضروري لنمو الخلايا ، اي ان تتبرع بدمها فهو اقتصادي واكيد. واستطاعت ان تحصل على عينات من اطفال طبيعيين (كونترول ) واظهرت الفحوصات على وجود 46 كروموسوم.
في هذه الاثناء جاء يزورها في المختبر و لمرات عديدة شخص لم تكن تعرفه سابقاً وهو طبيب متدرب يعمل في المركز الوطني للبحوث على الاشعاعات الآيونية في مستشفى اخرى وتلميذ المدير واسمه جيروم لوجن Jérôme Lejeune (1926-1994 ) ، وله ايضاً اهتمامات في خلايا اليد، واخذ يبدي اهتماماً بما تقوم به د. كَوتيه من بحوث عن الكروموسومات ، وسنتحدث عن هذا الشخص لاحقاً.
واخيراً في عام ( 1958 ) نجحت الدكتورة الشابة في الحصول على عينة نسيجية من طفل مصاب بالمرض " المنغولي " وكانت نتائج الفحوصات رائعة ولا تقبل الجدل : وجود 47 كروموسوم عند الطفل المريض بدلاً من العدد الطبيعي الذي هو 46 . وبهذا فان الدكتورة مارت كَوتْيَّه قد ربحت الرهان فهي وحدها وبإمكانياتها التكنيكية البسيطة التي وفرتها في المختبر الذي شيدته بنفسها وبالتبرع بدمها استطاعت ان تثبت المرض..انه اكتشاف فرنسي لم يكن في السابق سهل المنال ، وهي المرة الاولى في التاريخ التي يتوفر فيها شرح بايولوجي لتخلف عقلي وإيجاد علاقة بين هذا التخلف وتشوه الكروموسوم. انه اكتشاف اول مرض تسببه تشوهات كروموسومية في الجنس البشري ، وهذا الاكتشاف قد فتح الآفاق لولادة علم جديد هو علم الجينات الخلوية او " Cytogenetic السايتوجنتك " ولاكتشافات جديدة لتشوهات كروموسومية اخرى. وهو يأتي بعد مرور اكثر من قرن على وصف هذا المرض سريرياً. بل ، في عالم طب الاطفال وعلم الجينات ، يمكن الحديث عن عصر ما قبل الاكتشاف وما بعده.
الكروموسوم الاضافي او الزائد صغير ( اتضح فيما بعد انه يعود الى الكروموسوم 21 ) والمختبر لا يملك ميكروسكوب مزود بكاميرا لتصوير الكروموسومات من اجل توثيق النتيجة واثبات " الكاريوتب caryotype " ونشرها. اقترح القادم الجديد " جيروم لوجن " القيام بمهمة التصوير في مختبر آخر يملك تجهيزات تصويرية افضل فعهدت له السلايدات ، ولم تعلم حينها انها قد أخطأت عندما وثقت بهذا الشخص. كان هذا الطبيب الشاب الجديد قد ادرك اهمية هذا الاكتشاف العظيم ، اما الدكتورة صاحبة الاكتشاف فانها تقول عن نفسها في تلك الفترة " كنت صغيرة جداً ولم تكن لدي الخبرة الكافية ولا السلطة في هذا الوسط الطبي ولم اعرف طرق واساليب المواجهة ولا قوانين اللعبة. وكانت الحصيلة هي ان القادم الجديد والطموح جداً اخذ السلايدات وصورها ولم يريها تلك الصور رغم مرور فترة غير قليلة مماطلاً بحجة انها محفوظة في مكتب المدير. ابعدت عن الموضوع او تجاهلوها ، ولم تعلم حينها لماذا لم ينشر اكتشافها فوراً ! ولكنها اكتشفت لاحقاً ان جيروم لوجن كان يخشى ان يكون الاكتشاف خاطئ فيطيح بمستقبله المهني. وبعد ذلك فان السيد جيروم لوجن قد ابرز نفسه باعتباره لاعب الدور الأول في اكتشاف الترايسومي 21 ، فعندما ذهب مرسلاً من مركز بحوثه الى مؤتمر في كندا مكرس للاشعاعات الأيونية ( موضوع اختصاصه ) طلب انعقاد كونفرنس عاجل لم يكن مخطط له و تحدث عن الاكتشاف ( دون ان يكون مخولاً بذلك ) بطريقة توحي انه المكتشف الوحيد ودون ان يذكر اسم مارت ولا اسم استاذه ، في حين ان الدكتورة مارت كَوتْيَّه هي صاحبة الاكتشاف وهي التي رأت بأم عينيها ولأول مرة في العالم وجود الكروموسوم الاضافي الصغير. وكان هذا من خلال الزروعات الخلوية التي قامت بها في المختبر الذي شيدته بنفسها وبالمواد التي اشترتها من جيبها الخاص والاوساط الزرعية التي غذتها بدمها. وبعد عودة جيروم لوجن من كندا نشر البحث في مطلع عام 1959على عجل في مجلة اكاديمية العلوم الفرنسية والحجة هي من اجل ان يكون تاريخ النشر متقدم على ما قد ينشر من قبل الباحثين الانكليز والامريكان. الى الآن والطبيبة مارت كَوتْيَّه لم ترى الصور وبدون ان تكون على علم بالتفاصيل فالنص وصلها شفهياً في نهاية عطلة الاسبوع كي يكون جاهزاً في يوم الاثنين اي بداية الاسبوع. وبعكس كل المعايير والقيم المتعارف عليها نشر البحث وكان اسم جيروم لوجن هو الاول واسم مارت الثاني واسم المدير هو الاخير ، وبهذا فان الدكتورة مارت كَوتْيَّة كانت الضحية الوحيدة من هذا التسلسل حيث جرت العادة ان يكون الاسم الاول للباحث الاول القائم بالتجربة والعمل الرئيسي والاسم الاخير هو للمدير اي صاحب العمل وهذا شيء متعارف عليه. اضافة الى ذلك فقد نشروا اسمها مكتوباً بشكل خاطئ سواء كان الاسم الاول ( ماري بدلاً من مارت ) او اسم العائلة ( هل هو خطأ مقصود !!). فهل هناك اجحاف وظلم اكثر من ذلك ؟. كان طموح جيروم لوجن كبيراً وبوضع اسمه كباحث اول كان يأمل في الحصول على جائزة نوبل .
تقول العالمة مارت كَوتْيَّه ، ودون حقد او رغبة في الانتقام ، ما معناه " لقد سبب لي ذلك جرحاً لن انساه" وشعرت انه قد لعب عليها وانها اصبحت المكتشفة المنسية . ثم بدأت بعد ذلك الدعايات الاعلامية منظمة ومبرمجة من قبل جيروم الذي رتب لنفسه لقاءات صحفية واعلامية. واذا به يقفز من طبيب متدرب في المعهد الوطني للبحوث الى باحث متقدم وينال المدالية الذهبية ثم يرقى الى وظيفة استاذ في السايتو جنتك ( علم الجينات الخلوية ) وهي وظيفة استحدثها له المدير الاستاذ " Turpin تيربان" دون المرور بالتدرج الجامعي ..لتفتح له الابواب على العالم ويحصد الجوائز..فيستلم لوحده "جائزة كندي" (200000 فرنك جديد ) وجوائز اخرى دون ان يحاول اشراك زميلته المكتشفة الاولى للمرض. وبالتدريج وبمرور الزمن أخذ يشارك في العديد من المؤتمرات ويقدم نفسه من جديد على أنه المكتشف الوحيد الى حد ان ورثة استاذه " تيربان " يتقدمون بدعوة قضائية بواسطة محاميهم مستندين على وثائق محفوظة في معهد باستور..ومع هذا فانه اصبح حسبما تقدمه الصحافة والاعلام ب " ابو الترايسومي 21 ".
ما بعد الاكتشاف : ستون عاماً من الاحداث
فحوصات في خدمة الاسرة :
في عام 1960 توفرت الامكانيات اللازمة و اصبح من الممكن تشخيص المرض عند المرأة الحامل اي قبل الولادة وفي عام 1975 جرى التصويت والموافقة على القانون الذي يسمح بالإجهاض مما اثار مشاكل عند الطبيب جيروم ليجن وردود فعل سلبيه كونه كاثوليكي مؤمن ومتدين وضد الإجهاض. علماً ان هذه الفحوصات والمسوحات ، التي من خلالها يمكن التأكد من وجود او خلو الجنين من الخلل الجيني ، قد انقذت آلاف العوائل في كل دول العالم وجنبتها مآسي وويلات . في فرنسا يتم الفحص عند الحامل بعمر 38 سنة وما فوق ويتم على عينة من السائل الامنيوتي الذي يحيط ويحمي الجنين . واجراء الفحص يجري في المراحل الاولى من الحمل كي يمكن القيام بعملية اسقاط الحمل في حالة اثبات الاصابة فالمرض مرعب وفضيع ويحيل حياة العائلة اليومية الى جحيم ، فالمولود المصاب به سيكون مقعد او شبه مقعد مع تشوهات خلقية عقلية وجسدية.
وفي سنوات الستينات ابتعدت مارت عن جيروم وكرست نفسها لعلم امراض القلب عند الاطفال " لم ادرس الطب لأعد الكروموسومات وانما لعلاج الاطفال ". ثم ترأست لاحقاً وحدة بحوث السايتوجنتك في المعهد الوطني للصحة والبحوث الطبية في مستشفى الكرملن بيستغ (Le Kremlin – Bicêtre ) القريبة من باريس كمديرة بحوث اضافة الى عملها كطبية لامراض القلب.
جائزة نوبل :
كانت الاوساط الطبية تتوقع ان تمنح لجنة نوبل الجائزة للاكتشاف ولكن ذلك لم يحدث. وفي هذا المجال يذكر احد العلماء ان سكرتير لجنة نوبل جان لينستن جاء الى باريس واتصل بالاستاذ موريس لامي وزوجة العالم ( كلهم مختصيين بعلم الجينات ) وسألهم ان كانوا سيصابون بالصدمة ان قررت اللجنة عدم ادراج اسم جيروم لوجن لنيل الجائزة ، وبالفعل لم يدرج اسمه. ولا احد يعرف السبب الحقيقي ، فهل يعود ذلك الى مواقف جيروم الدينية حول التشخيصات والاجهاض ( وهذا ما ينفيه البعض ) ام بسبب الشكوك التي كانت تحوم حول دوره في الاكتشاف ؟ ام لاسباب اخرى ؟.
شهادة للتاريخ :
لقد عملت مع الدكتورة مارت كَوتْيَّه في مختبرها الاخير لمدة سبعة سنوات ( 1983 – 1990) وهذا ما سأفصله في القسم الثاني من المقالة. وخلال تلك الفترة كان كل الاساتذة والاطباء والمختصين في علم الجينات الذين التقيت بهم في مناسبات خاصة او مؤتمرات علمية يتحدثون عن مارت على انها العالمة التي اكتشفت الترايسومي 21 وانها امرأة عظيمة و هناك حيف قد لحق بها . في عام 1990 قابلت البروفيسور الدكتور هنري ليستراديه H. LESTRADET ( 1921 – 1997 ) وهو عضو في اكاديمية الطب الفرنسية في مكتبه بناء على طلبه باعتباره مقرر وعضو لجنة مناقشة اطروحتي للدكتوراه. وبعد الانتهاء من بعض التفاصيل المتعلقة بالأطروحة حدثني بفخر واعتزاز عن الدكتورة مارت كوتْيَّه التي يعرفها جيداً فقد عمل ايضاً في مستشفى تروسو الذي شهد الاكتشاف وقال لي مبتسماً ساقص عليك هذه الحادثة عن مارت : " في احد الايام وبينما كنا نحن الاطباء في احدى القاعات للاستماع الى محاضرة دخلت مارت على عجل متأخرة قليلاً وجلست خلفنا بالمؤخرة وقالت لنا وهي فرحة " لقد وجدت كروموسوم اضافي عند عينة لمريض وعدد الكروموسومات هو 47 بدلاً من 46 " فضحكنا غير مصدقين وتصورنا انها تمزح. هذه شهادة تاريخية من قبل عالم عاصر الاكتشاف اذكرها هنا لأول مرة وهي تثبت بما لا يقبل الشك ان الدكتورة مارت كَوتْيَّه هي صاحبة الاكتشاف. وكان يجدر ان يكون اسمها هو الاول في البحث المنشور ، وموضوع تسلسل الاسماء في البحوث يطرح ايضاَ مشكلة اخلاقية وادبية لا يمكن تجاهلها. ويحظرني الان مثل حدث لي عام 1978 عندما كنت في العراق وبعد الانتهاء مباشرة من كتابتي لأطروحة الماجستير. جاءني المشرف على الاطروحة الدكتور عزيز الخياط ( رئيس فرع الفارماكولوجي ) ورجاني ان اوافق على وضع اسمه اولاً واسمي ثانياً في احد بحوث الاطروحة والسبب الذي ذكره هو انه يريد ان يشارك به في المؤتمر العالمي السابع للفارماكولوجي (علم الصيدلة والعقاقير) المزمع عقده في تموز من عام 1978 في باريس، وحسب قوله ان من يشارك ويلقي البحث عليه ان يكون الموقع الاول على الدراسة. لقد وافقت في حينها وبمحض ارادتي على ذلك وصدقت كلامه فقد كنت مبتدئاً ، وظهر لي بعد ذلك انه ممكن المشاركة في المؤتمرات حتى وان كان تسلسل الاسم ليس الاول.
الفاتيكان يتحرى:
ان البروفيسور جيروم لوجن الذي طارت شهرته الى بقاع العالم وكما جاء سابقاً قد توفى في عام 1994. وفي عام 1996 تم انشاء مؤسسة " جيروم لوجن " ويترأسها الان زوج ابنة المتوفي وهو قاضي اما نائبة الرئيس فهي ارملة المتوفى وقد لعبت هذه المؤسسة دوراً في التصدي لكل من حاول قول الحقيقة من المختصين والمؤسسات العلمية و التي أخذت اعدادها تزداد يوماً بعد يوم.
في عام 2007 ، وبعد دراسة وتقصي لعدة سنوات ، قررت الكنيسة النظر في "تطويب " جيروم لوجن واحتمال اعطاءه لقب ديني عالي لا يعطى الا لمن لهم مكانة ترقى الى "القديسين " ، وهنا برزت من جديد قضية الاكتشاف الشهير واشكالاته ومدى مصداقية هذا الرجل الى الواجهة. واستلمت الكنيسة رسائل عديدة ومن دول متعددة تطالب بالنظر بعين الاعتبار الى الشكوك التي تحوم حول الرجل المتوفى في موضوع اكتشاف مرض التراسومي 21 . ومن تلك الرسائل رسالة العالمة البريطانية باتريشيا جاكوب الى البابا ، وباتريشيا هي نفسها قد اكتشفت في عام 1950 احد امراض التشوهات الكرموسومية اي انها متابعة لموضوع اكتشاف مارت كَوتْيَّه للمرض ، وهي ايضاً قد توصلت الى نفس الاكتشاف عن الترايسومي 21 ولكن لم تستطيع نشره الا بعد فترة قليلة من نشر اكتشاف مارت كَوتْيَّه. تقول في رسالتها الى بابا الفاتيكان والتي ايدتها شخصيات بريطانية اخرى في علم الجينات " ان لوجن قد قدم نفسه مرتين على الاقل على انه المكتشف الوحيد للترايسومي 21 " ثم تضيف قائلةً " ان عملية تشويه الحقيقة التي قام بها الاستاذ لوجن يجب ان تدرس بشكل جدي خلال كل المناقشات التي قد تتم لاحتمال التطويب " المقصود الرتبة الدينية. وفي فرنسا فان عدة اطباء كاثوليك كتبوا الى جهات دينية عليا (ابرشية ) في نفس الاتجاه. كما ان الدكتورة مارت كَوتْيَّه قد استدعيت من قبل الابرشية الباريسية لاستطلاع رأيها. والقضية لا تزال تحت الدراسة ويبدو انها قد حفظت بسبب التحفظات المذكورة اعلاه والتي جاءت من مصادر متعددة ومن بلدان مختلفة.
حملة تكميم الافواه وردود الفعل
اما في عام 2009 الذي صادف مرور 50 عاماً على الاكتشاف العلمي رسمياً عادت من جديد الى الواجهة المسألة "الاخلاقية" المتعلقة بالاكتشاف ولكن عودتها هذه المرة كانت بقوة : من هو المكتشف الرئيسي ؟ ولماذا هذا التعتيم على دور العالمة مارت كَوتْيَّه ؟ الم يحين الوقت لكشف الحقيقة وازالة اللبس ؟. فعندما تدخل الى موقع مؤسسة جيروم لوجن تجد الجملة التالية في مقدمة الحديث عن المؤسسة : " في عام 1959 ، اكتشف الاستاذ جيروم لوجن ، طبيب وباحث ، وبمساعدة مارت كَوتْيَّه ، سبب " الترايسومي 21 . " فهل هناك وقاحة وقلة ادب اكثر من ذلك ؟. يذكر اسم جيروم كأستاذ ، طبيب وباحث في ذلك الوقت اما الدكتورة مارت فيذكر اسمها المجرد دون لقب رغم انها كانت طبيبة ( بعنوان رئيسة عيادة ) وباحثة في علم الجينات قادمة حديثاً من جامعة هارفر بينما كان هو طبيب متدرب في علم الايونات الاشعاعية. ثم ان الجملة تقول انها ساعدته ولكن حسب ما تؤكده الحقائق والشهود ان العكس هو الصحيح.
في نفس هذا العام (2009 ) نشرت مجلة طب وعلوم مقالة للدكتورة مارت كَوتْيَّه تستذكر فيه تلك الفترة وتكشف فيها حقائق كثيرة اقتبست منها الكثير في مقالتي هذه ، والمقالة تحت عنوان " الذكرى الخمسون للتراسومي 21 ، عودة الى الاكتشاف. وفي نفس هذا العام ايضاً قررت مستشفى " تروسو Trousseau " ان تضع لوحة تكريمية للعالمة مارت كَوتْيَّه وزملائها ، بمناسبة مضي نصف قرن على الاكتشاف ، وذلك على جدار البناية التي شهدت ولادة مختبر مارت الذي اسسته بنفسها وكتب عليها الاسماء بالتسلسل الصحيح ( مارت كَوتْيَّه ثم جيروم لوجن و ريمون تيربان ). المشكلة هي ان جيروم لوجن لا يزال " قوياً ويمتلك السلطة " حتى بعد موته بسبب المؤسسة التي تحمل اسمه وتملك امكانيات كبيرة فرئيسها وزوج ابنة المتوفي قاضي ويعرف كيف يكرس معرفته .
في مطلع عام 2014 تصاعدت قضية اكتشاف الترايسومي 21 من جديد وبشكل مكثف وتناولتها العشرات من الصحف اليومية الفرنسية والاجنبية وكذلك المجلات العلمية في الداخل والخارج وعلى شبكت الانترنت وسط جدال علمي واخلاقي وتصاعدت اصوات العلماء من اجل اعطاء العالمة الفرنسية حقوقها والاعتراف بانها هي صاحبة الدور الاولي في الاكتشاف ، ومقابل ذلك تصاعدت الحمى في مؤسسة جيروم لوجن الى حد اللجوء الى القضاء والطلب بإرسال محقق عدلي لتسجيل وقائع مؤتمر علمي في مدينة بوردو ( مؤتمر الجمعية الفرنسية لعلم الجينات البشري ( /01/2014/ 30) والذي كان من المفروض ان تلقي فيه الدكتورة مارت كَوتْيَّه محاضرة عن الاكتشاف وان تستلم جائزة الجمعية الكبرى. وبما ان المؤتمر علمي وهناك ضغوط مالية ونفسية وليست عند منظمي المؤتمر الاموال الكافية لتكليف محامي للذهاب الى المحاكم ، فان منظمي المؤتمر اصابهم الخوف فهم غير متعودين على مثل هذه الاجراءات فألغيت المحاضرة وسط ضجة من الاستياء و الاحتجاجات. ومن هنا انطلقت اقلام وحناجر الكتاب والاطباء والعلماء في فرنسا وفي جميع انحاء العالم منددة بهذا التوجه العدواني السافر وهذه الاساليب غير المنطقية والتي تتسم بالعنف ضد مؤسسات علمية رزينة وذات مكانة عالية ، ومحاولة كم افواه العلماء وهذا ما لم تألفه تلك الاوساط الطبية والعلمية ، ومن تلك المقالات مقالة كانت تحت عنوان جميل " رائدة الى الابد " والمقصود هنا بالطبع الدكتورة مارت كَوتيَّه.
عام يتوج بتكريم المكتشفة وقبولها به
وفي يوم 18 ابريل من عام 2014 صدر مرسوم جمهوري تقرر فيه منح العالمة الدكتورة مارت كَوتْيَّه وسام الشرف وهو من اعلى الاوسمة وقررت في هذه المرة قبول الوسام بعد ان رفضته مرتين ( مرة بعد الخروج الى التقاعد مباشرة ، وكنت على علم بذلك ،ومرة اخرى بمناسبة مرور نصف قرن على الاكتشاف ) ، قبلت الوسام تعبيراً عن سخطها من وقاحة وتمادي مؤسسة جيروم ليجون. اما وسام الشرف هذا فهو بمثابة اعادة اعتبار واقرار بدورها الرئيسي في اكتشاف الترايسومي 21 . وقد استلمت الوسام في احتفال اقيم لهذا الغرض في يوم 16 ايلول 2014 في مستشفى تروسو TROUSEAU وهو نفس المستشفى الذي شهد انشاء اول مختبر لزرع الخلايا واجرت فيه تجاربها التي توجت بالاكتشاف الكبير وهذا له دلالاته الكبيرة ورسالة واضحة الى مؤسسة جيروم ليجن. اما من تفضل بتسليم الوسام فهو استاذة الشرف " كلودين هيرمان " وعضوة مؤسسة لجمعية " المرأة والعلوم " ، وهذا ايضاً له دلالاته لان المنظمات العلمية والمدنية لحقوق المرأة في فرنسا وفي بلدان اخرى كانت تتابع قصة الاكتشاف وقدمت بعض الادلة التي يستدل منها ان تغييب وتجاهل دور مارت الرئيسي وسلب حقوقها كان من احد اسبابه التمييز بين المرأة والرجل ، وهذا في نظري شيء لا يستهان به. يجدر بالذكر ان وسام الجمهورية الفرنسية الممنوح للدكتورة مارت كَوتْيَّه هو " وسام جوقة الشرف بدرجة ضابط " وقد استثنت الدكتورة من شرطين اساسيين لنيله الاول هو ان هذا الوسام لا يمنح عادة لمن تجاوز عمره الثمانون وكان عمرها عندما منحت الوسام 88 سنة ( اطال الله عمرها ) ، الاستثناء الثاني هو ان الوسام بدرجة ضابط لا يمنح الا بعد المرور او الحصول على وسام جوقة الشرف بدرجة فارس.
ورغم ان التكريم جاء متأخراً ، وبعد مصاعب ومتاعب تعرضت له العالمة الفاضلة مارت كَوتْيَّه Marthe Gautier ، الا انه دليل على ان الحقيقة لا بد ان تظهر والشمس لا بد ان تسطع ولا يمكن التعتيم عليهما الى الابد. فرغم مرور اكثر من 50 عاماً على هذه القضية ومحاولات مؤسسة جيروم لوجن العنيفة لطمس الوقائع فان القضية لم يصيبها النسيان بل كانت تتفاعل وتزداد وتكبر بمرور الزمن ويوماً بعد يوم من قبل الاوساط الطبية والعلمية التي تطالب بتصحيح المسار والاعتراف بدور مارت الرئيسي والحازم في الاكتشاف. وانا شخصياً دخلت على مواقع متعددة ومتخصصة في شبكة الانترنت وقرأت مقالات وكتابات عديدة فوجدتها تسير في هذا الاتجاه الصحيح وبات اسم الدكتورة العزيزة مارت يذكر كرائدة وصاحبة الدور الاول والرئيسي في اكتشاف الكروموسوم الاضافي والزائد في مرض الترازومي 21 .
تحية اكبار الى الرائدة العالمة القديرة مارت كَوتيّه Marthe Gautier على هذه الشجاعة وعلى هذا الصمود الهادئ والرزين من اجل اظهار الحقيقة فقد دخلت التاريخ مرتين من اوسع ابوابه المرة الاولى عندما اكتشفت (التراسومي 21) TRISOMY 21 عام 1958 وتعود الان لدخوله من جديد منتصرة بمعركة سندها هذا الكم الهائل من العلماء والاطباء والكتاب والمؤسسات التي وقفت معها...مع الحقيقة ومع التاريخ. تحية الى مارت كَوتيَّه المناضلة والمدافعة عن حقوق المهاجرين اينما حلوا.
يمكن للقارئ الرجوع الى الانترنت لمعرفة مسيرة مارت كَوتْيَّه ( اطال الله عمرها ) وهي متوفرة في الانكليزية والفرنسية . ادرج ادناه الميداليات والأوسمة التي حصلت عليها عالمتنا القديرة :
-Prix Winslow, Copenhague ( 1971)
-Prix Monthyon de l’Académie des Sciences –Institut de Frace ( 1975)
-Grand prix de génétique humaine de la Société française de génétique humaine et de la fédération française de génétique humaine pour la mise en évidence des 47 chromosomes dans la trisomie 21 ( 2014 ) .
اي الجائزة الكبرى لعلم الجينات البشرية الممنوحة من الجمعية الفرنسية لعلم الجينات و الفيدرالية الفرنسية لعلم الجينات لاثباتها وجود 47 كروموسوم في مرض التراسومي 21
-Officier de la légion d’honneur ( 2014)
اي وسام جوقة الشرف من درجة ضابط صادر بمرسوم جمهوري وموقع من رئيس الجمهورية عام 2014 .
نعمان
في يوم الخميس المصادف 18-01-2018